نزلاء فندق أمير بلاج




ما تبوح به نظرات نزلاء فندق الحسيمة، 
كان صباحاً عاديا بشكل يخيف . الكل على عجلة،  الجميع في سباق مع الآخر ناولت طرفاً من فراشي الكرتوني ، و تربعت في الوسط كان الشارع على طوله و المدينة بأزقتها ، أروقتها و زبالاتها مواطني إلا أنني كنت في الوسط أكون مرئيا أكثر ، إتخذت وضعيتي عيني صوب أرجل المارة و رفعت يدي قليلا ثم شرعت في تنويح أدعيتي رغم أنني أكثر حاجة إليها ، إلى أنها كانت جزء مهما ، و ضرورة مشروطة منها في عملي ؛ كنت أبايعهم رجاءاتي و صلواتي مقابل كرمهم و في أغلب الأحيان ببلاش . كان نهاري يبدأ مع أول يد تتصدق لي و أول رجاء يقبل ، و في بعض الأحيان لا يبدأ و لا تشرق شمسي رغم أشعتها التي تثقب رأسي . ظللت في الوسط على مرأى الجميع مخفيا ، لدهر من الزمن إلى أن رجتني كل رجواتي ، و أتممت كل صلواتي أنزلت يدي رويداً بعد انتصاب طويل . ناولت مرة أخرى قطعة الكرتون و ارتحلت إلى الجانب الآخر حيث إلتسقت بالجدار ممتصا منه كل برودته  و سافرت في تأمل المارة الذين كانوا على غير عادتهم ، كان الوضع فوضوياً بشكل خفي و الجميع خائف بشكل صامت . لم أقرأ يوما هذا الشعور في أعينهم و لا هذه الأنانية في الخطوات كنت دائما ما أصنفهم على حساب خطواتهم و أحذيتهم ، لكن هذه المرة استصعب علي اتفاقهم على خطوة واحدة متسارعة ، مرتجفة و متباعدة ... 
و مع انقضاء أول ساعات الصباح حيت اعتدلت الشمس في نصفها الآخر و راحت تلوح لي على أمل اللقاء من الجديد ، لاحظت بطء في الحركة إلى أن اختفى الجميع على نحو مفاجئ مرعب كانت أول لحظة أشعر فيها بالوحدة أرعشت كل كيان في جسدي ، عانقت كرتوني و قبل أن أستسلم لأول غمضة عين أفزعني صوت قادم من بعيد و مع اقترابه كانت تزيد نبضات قلبي في وقع هستيري كان الصوت عاليا ، صخبا، و مخيفاً لدرجة أنني صرت أهرول في كل الاتجاهات كان صوت صفارات الإنذار تلتها جيش من سيارات الشرطة و الدبابات ، أحسست أنني المقصود و أنني الهدف ، 
فهممت مسرعاً إلى مقهى اختبئت خلف سترانها المنسدلة إلى أن بدأ الصوت بالركود شيئاً فشيئا فنهجت إلى الخارج نهج الزجاجة المتدحرجة التي تأبى الانكسار و قد كان الليل قد أسدل آخر ستائره و نفخ أشد صعيقه ، فصرت وحيدا أبحث عن روح في هذه المدينة التي باتت خاوية على عروشها لا أسمع صوتا سوى صوت ارتجاف قدمي الحافيتان  لم يكن ليرعبني آنذاك سوى انهزامي أمام أفكار لطالما حاربتها ، و لمشاعر طالما كبتها ، بدأت الذكريات تسترسل على ذاكرتي في وقع أشبه بهجمات مرتدة ، انكبت معها كل عبراتي في لحظة من الضعف ، الإيمان و التطرف ، الوطنية و التمرد ما بين العفن و التعفن . للوهلة الأولى التي بدأت أرفع رأسي و أنحني لأفكار التشرد و الشحاذة ، للوهلة الأولى التي وعيت فقرفت من يدي . صرت و الآلهة وحيدا في الطريق و أتساءل من أين للأشجار كل هذه الثقة لتثبت على اتجاه واحد و أين أنا من منزلة البشر ؟!    
شفت البلدان او راسي شاب ... سمعت حكايات لي هزو منامي 
يكذب لي يقول هاو عندي حباب... قداش رجال بكاو قدامي 
ناس تعشق سلطة جاه و مال... و انا فالكاس دفنت اوهامي 
نعرف لي زمان الضحكة فال ... نعرف ماعندو معنى كلامي
- حسام اليوسفي -
إلى أن استسلمت على قارعة الرصيف ، ليوقظني هدير المياه من خراطيم عمال النظافة رجوت لو ينظفوني أو حتى ينتبهوا لوجودي ، جربت كل إيماءات من تنهد و تأفأفٍ و سخطٍ إلى نواح و رجاء و كل أنواع النظرات من رجاء و تأسف و كرهٍ و تمرد و ضعف ، لكن دون جدوى . 
ألست لهذه المدينة إبنا أسير 
و لهذا الوطن غصنا جريح 
توالت الأيام و تراقصت الساعات على وقع أحزاني ، و جاء اليوم حين استيقظت على صوت امرأة ناداتني بلطف و استرسلت بسؤالي عن أحوالي و وضعيتي كانت المرة الأولى التي ألتمس فيها الانتماء بعد ما كنت الغريب في عز أوطاني ، سألتني إن كنت أريد الذهاب الى مأوى فكيف لي أن أرفض فمن هو هذا الذي يأبى بر الأمان في عز عصور الطوفان ... 
اخذت كرتوني و ألقيت به عاليا بعيدا ، انكارٌ جميل هو عندما تزف بعيدا ما كان مؤنسك في أحزانك أنكرتها كما ينكر الكفيف عصاه عندما يبصر . ارتحلنا أنا و أربع من الرفاق من عابري السبيل و الاشقياء مثلي إلى فندق أمير بلاج الذي يطل على خليج ساحل الحسيمة كانت لحظة اعتناقي الإنسانية و إيماني القطعي بالتغيير . ها أنا الآن نزيل أحلامي ، و لي من الرعايات الطبية و النفسية ما يضمد أحزاني ، أنا أؤمن بالتغيير و بمغرب أرضاً للحرية و الكرامة و حق العيش و حق الضعيف ...
كم هو مؤسف أن تنسيني أبسط ظروف العيش مرارة أيام القطيع ...
‏أنا متشائم لإحساسي بأننا نقترب من أوقات خطرة، ولكنني متفائل لنفس السبب أيضًا. التشاؤم يعني أن الأمور ستصبح فوضوية أكثر. التفاؤل يعني .أن هذا هو بالضبط الوقت الذي يكون فيه التغيير ممكنًا
- سلافوي جيجك -  

تعليقات

  1. ما اجمل تلك المشاعر التي خطها لنا قلمكِ الجميل و اسلوبك رائع هنا لقد كتبتِ و ابدعتِ كم كانت كلماتكِ رائعة في معانيها.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بريد المدينة (هايكو)

يشبه الهجرة إلى حد كبير

هل أحدثك عن الخريف ؟