ســــقطَ القنـــــاع




سقط القناع 
قبل اليوم بخمسة أشهر ....
أدبر الظلام، و إرفدت بشائر الأشعة الأولية المنسلة من الشمس، تسابقها على إعلان يوم جديد - لم يكن أبدا يوما عاديا - فلطالما كانت تتبعه الأرجل الحافية تتبع العبد لسيده، و تترقبه العيون من على الشرفات ، و البطون الجائعة من خلف الأبواب و الأباء بقفوفهم المنتظرين في الأسواق ، و الايادي المعلقة في النوافذ من شدة الصَبابة، و الأجساد الراجية في العناق... فلم تلبث أن ضحت الشمس و كشفت عن كل و ضوحها حتى هتف الجميع إلى الشوارع هتاف المستجدي الواحد و هتاف المصدوع الواحد ، وهتاف الجسد الواحد لأن ما كان يجمعهم هذه المرة هو نفسه ما كان يبقيهم مفترقين . حتى كدرت العيون من الاشتياق و الأفواه من السلام ، فسرت من على مضجعي ، أسبل إلى الخارج شئني من شئن غيري ، أتريت و أرتئد في الخطوات غير مبالية لا بوعث الطريق و لا بتأجج الشمس ، ألقي السلام على هذا و أشخص النظر في ذاك ، بفرحة و دهشة و فضول الضرير الذي يلامس النور بعد غلسٍ طويل ، كان الجميع تائها وسط الجميع، الرفاق من الرجال يتسامران في المقاهي ، أما النساء كن قد غرقن في الأقوال في الأسواق بين القهقهات و جلسات الشاي، مازالت أهيم في هذه الأجواء هيام الأرواح الصاعدة للسماء أشهد لإلتصاق العجائز بالحدائق ، و تزاوج الصغار بالأشجار كان الجو جو عيد ، كأنني كنت أتنزه بين ألوان لوحة اللحظات الأولى في السماء . و لم تكن الأنفس قد إستروحت بعد حتى توارت الشمس و اضمحلت ، تبددت، تفرقت وزالت أشعتها فكشفت السماء عن إسوداد برقع ليلها ، و أحيت الأرض كل وحوشها فلم نكن يوماً كما الآن و لن نكون حتى بعد الآن .
إننا الآن فيما بعد الحجر ، إننا الآن في حجر و عزل ، إننا الآن فيما بعد الوباء إننا الآن محاطين بالوباء .
كم هو مخزي أن يخسر المرء  حربا بسبب فرحة الانتصار. كنا المحارب و القائد ، الجاني و الجاني عليه ، الداء و الدواء، وصرنا الفاقد و المفقود ، صرنا حصيلة فيروس و رقما يضاف إلى المبيان المعدودة . مؤسفٌ أن يكون لثمن القبلة فداء ، كم مؤسف أن يكون الفداء افتراقا ً و وداع ، خسر الآباء أبناءهم ، والأبناء أمهاتهم  والوطن حماه و خسرت البشرية جمعاء . ملئت المستشفيات ، بيعت الآنبياء و ساقت الجثث وحيدين متعانقين ، وظلت العجائز في الانتظار على عتبات المستشفيات لا ينتظرون الدواء فلا تدين الحكومة بشئ لمن لا يسهمون في رفع الاقتصاد . 
سقط القناع 
سقطت القلاع 
كشف الزمن عن أيامه النكباء 
و بعت أنا إنسانيتي بثمن قفة و ثمن قناع 
بيعت الآلهة في الأرجاء 
و سارت الجثث إلى مراقدها حفاة 
و ظلت الِبقية بعدهم متباعدين 
و كلما كان يطوى يومٌ كان يعاد ، فأصبحت الأيام كلها بلون الأحد ، غمض الغد و شاخ في اليوم ، و لا تتغير سوى المسافات التي لازالت تبعدنا عن الآخرين ، إلى أن أحتم على الصُبابَة من غير الهالكين أن يعيشوا لعصر جديد، ولحضارة جديدة،إننا اليوم نعيش على وقع التباعد الاجتماعي و ايقاع التباعد، التغرب، الهجر و النفي في أوطاننا بين أهلنا وسط مضاجعنا، فلا يجلس بعد الآن الجليس قرب الزميل، ولا نحتفل بالعرائس ولا نمشي وراء العجائز، لا نجلس المقاهي و لا نقرأ الفنجان ، نركب التاكسي وحيدين، نصلي وحيدين . تنزل الملائكة بعد الآن بقناع ، ولم يعد الشيطان يمتهن الوسواس خشيةٍ من العدوى و احتراما لمسافة الآمان . وبيع الفن بأبخس الآثمان ،جيعت الأطفال و قادت البشرية نفسها الى الهلاك ، نجهل المآل و لا نعلم إلى أين تمضي بنا الحياة يا ثيو؟ ضاعت سفينتك يا موسى وسط البحار بلا شراع ، بلا نهاية ! فالنهاية اختراع الأمهات ليخلدن للنوم ، نامت الأمهات و ظللنا بلا نهاية نهتف بالغمض .....
النهايــــــة .
عبير فتحوني

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بريد المدينة (هايكو)

يشبه الهجرة إلى حد كبير

هل أحدثك عن الخريف ؟