الانسحــــاب

 

صالون مهترئ وجسد هزيل
يختبئ وسط جلبابه،
يصنع ركنا مريحا براحة يده
و يلوح هائما بين جنبات مخيلته
ترطمه اطلال أحلام الماضي البعيد و يدفنه ببطء قاتل فتاتها .
مطولا تحت رحمة هده النظرات لا يفكر بشيء جديد فلا وقت هنا للوقت ، كالمحكوم بالإعدام لا وقت له لتخيل المستقبل ، الا بعض شذرات الماضي التي لا تكف عن زيارته كل ما انفرد وحيدا بنفسه.
في السبعين من عمره، يتكور داخل جلبابه يجلس القرفصاء في الزاوية ويترقب شبح المارة من على الشرفات، كالأرواح الهائمة هو يهيم في اللاجديد، هنا في المنفى، هنا في البيت...
في السبعين من عمري. محارب قديم، زوج قديم الطراز، وصديق لأربعة رفاق، لا غذا لي، ولا ترغب الالهة في التوضيح، سوى فيروس لعين يقطع طريق العابرين،  
لا أدين للحياة بشيء
غير ثياب محارب قديم،
كنت قد ورثتها لأبنائي بعد سن العشرين..
مازلت اخلد في الذاكرة تفاصيل حلم مضى، حتى قاطعتني نظرات الشفقة من زوجتي وهي تتحسس جيوبها، تريد ان توصل لي شيئا شامخا لا تصله الكلمات، فلم تجد له سوى الايماءات، فلا تجهدي نفسك يا زوجتي في التعبير. انهيت حفلة التنكر هذه، ناولت قفتي من على الدرج العلوي بعد ان ذكرني الالم برفيق ظهري القديم -السياتيك-  وبعض آلام المفاصل وضعف البصر والسمع وحصى الكلى، والبروستاتا والمزيد..كانت هذه حمولتي من عقود في الخدمة العسكرية الى جانب علب السردين...
ناولت القفة، وسرت الى السوق متكئا على عكازي ومحفظتي ويدلني ظلي على الطريق. فعلى من يتكئ المرء في هذا الزمن. لا جوع في روحي انا أنتظر آذان الغروب، و إني لأرى في السوق عكس ما كان يصفه المذيع، ومن سيفسر ايديولوجية الجوع لكل هؤلاء المتجمهرين حول حبات البطاطس سيدي الوزير؟ من سيشرح ايديولوجية الجوع لكل هؤلاء الآباء، لأبنائهم في الطابور.
لا راية بيضاء في السوق، فمن يستسلم للجوع؟
قاطع تأملي البوليس
- ورقة السماح بالخروج، سيدي؟ 
- ها هي، يا ابن! لقد كنت في السوق
- حسنا! لكن لا تطل في الخروج، فالفيروس قاتل وأخشى تذكيرك بأنك مستهدفه القريب
- طأطأة رأسي في تفهم. آذن لي بالرحيل إذن
                                          ..............................................              
اعود للبيت منهك القوى، ألهت الكلمات، أزيل القناع أتنفس بحرية، هل لي أن أنزع القناع من على رأسي، اشعر بضيق في الكلمات و الافكار المتصدئة تخنقني. اتبع إجراءات السالمة قبل الجلوس ، فلا ضرر في المحاولة و لو كنت غريق.  
ومع انقضاء أول ساعات الظهيرة ،و اعلان الشمس رحيلها فتلوح بآخر أشعتها تلويحة وداع، ويأذن لنا المؤذن بالإفطار بعد احساس طويل بالمساكين، حين نستدير حول الطاولة فهنا سكينتي ومسكني، هنا مرسى سلامي وألفتي والهدوء الذي صان ثورتي، حينما اثور للمرة الأولى وتعتريني رعشة المناهضة، ارغب فقط أن اصير خالدا هاهنا، أن أغرق في الرتابة، أن يلتهمني الروتين أن أتوه في هذه الحلقة، لسبعين عاما الماضية ولسبعين عاما اخرى...
                                          ...................................................................
      و كنت قد لازلت اقتعد ركن الصالون المقابل للشرفة، أحاول تخطي الحاضر باستحضار ما مضى؛ حتى يقطع سكوني هذا، القرع في البابــــــ.  فهمت زوجتي بالفتح
 
-  من الطارق؟
-  مرحبا! يا سيدتي هل انت والدة عماد؟
- عجلت بجوابه، بلى هل حدت له أي مكروه ؟
- لا اعرف ما سأقول سيدي، لقد ظهرت بعض الحالات في صفوفهم و قد ثم إخضاعهم للفحص، وتبين انه مصاب...
عم صمت طويل داخل رأسي، لم أكن أستوعب شيئا مما يقول لم أحس يوما بثقل الكلمات كما اليوم ، كان الطنين صاخبا في اذني
- ثم أردف قائلا: آمل أن تستجمع نفسك سيدي، الامر ليس بتلك الخطورة هي أيام معدودة فقط في المشفى وسيشفى بإذن الله، ثم إن إبنك بصحة جيدة سوف يتغلب عليه، هذه الايام القادمة ستكون أصعب قليلا وتتطلب الكثير من الصبر
- و اضاف :كم عدد القاطنين معك  ؟
- أنا وزوجتي و ابني
- سأطلب منكم أن ترافقوني لإجراء الفحص، هو فقط إجراء روتيني احترازي لا شيء يدعوا للقلق
كان الوسط قد تعكر بعد طرقة الباب تلك نتبادل نظرات الدهشة التراجيدية، زوجتي تئن في الزاوية ، و كان ابني لا يزال يتمسك بفحولته حتى انكسر جدار صلابته و اجهش بالبكاء، أما أنا فأخطو في البهو ذهابا و إيابا كنت مذهولا و شبه ضائع  

ــــوبحـــــــــــال البحـــــــــــــــــــر إلا هــــــــــــــــاج و عـــــــــلات فيه المـــــــواج
ما يهدــــــــــــدا او يصفـــــــا ماه غـــــــــــير إلا غـــــــــــربت الشـــــمس
كـــــان في قــــلبي عجــــاج
-OUM- 
كان ليتغير الكثير لو قالها بنبرة أخرى، إن التأسف و اللطافة دائما ما تنذر بالأسوء.
دوى محرك سيارة الإسعاف بالاتجاه المشفى المجاور، جزء مني عالق بين نظرات الجيران أعلى الشرفات، و الجزء الآخر لايزال حبيس لحظة قرع الباب يحاول الايستعاب، أشعر بنظراتهم تتعقبني و تتردد في مسامعي مواساتهم . ماهي الا لحظات قليلة حتى بلغنا وجهتنا ، و ماهي الا لحظات قليلة أخرى حتى أجرينا الفحص ، كان للأحداث وقع متسارع مخيف .
انتظرنا ليلة كاملة لصدور النتيجة كانت على هيئة أيام طوال ، كانت إحدى تلك الليالي التي وصفها سيوران " تلك الليالي حيت يخيل إليك أن الجميع أخلو هذا الكون ، حتى الموتى و أنك آخر الاحياء، آخر الأشباح "
هبت الشمس من مرقدها ولم تكن عيني قد عرفت مكانا في مرقدها بعد، لطالما أردت أن أكون غير مكترث ، أن لا أراقب الوقت ، و أن لا أهتم بالتفاصيل ، التفاصيل على صغرها قاتل، لطالما أردت أن أكون غير مباليا كسماعة الأذن تنقل أعذب الألحان ولا تطربها . لازالت أحدث نفسي بهذا الكلام حتى اقتربت اصوات الخطوات ، كان الطبيب يحاول أن يشرح دون أن يقول شيئاً كان يتأسف بهيئة الخائف كل جزء منه يختبئ خلف الآخر . و ما هي إلا لحظات حتى افرغ حمولته ، و ألقاها علينا و سار .
تبين إصابتي انا و زوجتي انهالت على الكلمات كالصدمات المرتدة ، فبلغ مني التعب مبلغه فسقطت مكبا على وجهي 

لقد جربت زحمة الأعمال ، و كثرة الإرهاق ، فوجدت الفراغ أصعب منها بكثير – علي الطنطاوي – 

توالت الأيام على هذا المنوال و على نفس الفراغ ، كنت أشعر بالاختناق ، أشعر بالازدحام رغم كل ذاك الفراغ الذي يحيطني ، كنا نملؤها أحلاما ، الخارج كان يبدوا أرضا خصبة لتحقيق أي شيء ، نتشارك نفس الألم ، و تشاركنا نفس الأمل و الأحلام . كنا نرى في خبر شفاء ابننا بريقا من الأمل و فرجا قريب ، رغم تصاعد حدة سعال زوجتي هذا بالإضافة إلى الارتفاع المهول لدرجة الحرارة و صعوبة التنفس ، لكن مع تزايد هذا الوضع و عدم تجاوب الدواء مع جسمها ، نقلت إلى قسم العناية المركزة.
في تلك الليلة التي  تقرر نقلها إلى الغرفة الأخرى ، زارنا الطبيب لتوضيح الأمر 
- علينا نقل السيدة إلى العناية المركزة ، و لكن لا شيء يدعو للخوف ! 
- و لكنني أخاف من أن تكف زوجتي عن التوهج ، أخاف الظلام ، أخاف الظلمة و الوحدة و أقرف من الموت و الاشتياق أخاف أن تذهب عني بعيدا و أن لا أقوى على اللحاق ، أخاف من الصبحات التي لا أجدها فيها و أخشى طول ساعات الظهيرة بدونها ، أخاف كل شيء بدونها ، هل لك جرعة طمأنينة أخرى ، يا طبيب ؟ 
كثرت زيارة الطبيب لي بعدها ليحدثني عنها ، حتى تحولت علاقة نقل الأحوال هذه إلى صداقة .
كان صباحاً رماديا تملؤه الغيوم الضبابية الحائمة حول الشمس ، حين أخبرني ذات الشخص الباعث للأمل ، بنبرة صوت مختلفة عما عاهدته بها .
- انا آسف، لا أجد من عبارات المواساة ما تصفني ، و ما أمدك بها و أعرف أن الأسف الآن لا فائدة له ، لقد رحلت .
راني رايحة و مانولي 
ما تزيد تشوف خيالي 
من غدوة رايحة لبلاد بعيدة 
سعاد ماسي 
طال صمتي بعد ذاك الصباح لأيام طويلة ، كنت أريد العودة للوراء فلم يعد لي شيء لأستند عليه .
لكي نفهم الانهزامية 
ألم تكفي هذه الليال الطوال ؟ 
٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭
و إني لأشعر بتعب حلم الماضي ، و إن آمال الماضي كجيش يسير ذهابا و ايابا فوق قلبي ، أجهل كيف قاومت مرارة تلك الأيام ، كنت انام على نفسي و اتكور داخل جلبابي و أحدث الأسرة و الجدران هذا ما أذكره ، و لم تطل هذه الأيام حتى اشتد علي المرض و خفت زيارات الطبيب ، كنت أعلم أنه يكره الوداع ، وعلى عكسه كنت أستعد له .
في آخر زيارةٍ للممرضة لي أخرجت من الرف المجانب لي عكازي و قدمت لها معه كل خطواتي و السوق و كل الحروب التي خضتها ، بكل الأحلام التي استرقتها و أنا اسير و كل الرفاق ...
ناولتها بقفزيها المرتعشيين ، أخبرتها بأن تلقيه بعيدا، و أن لا تقسُّ عليه و تحرقه فلقد كان يحملني يوماً، و أردفت قائلا: ستمرين يوما من هنا ، آمل أن تذكري أنه كان يعيش رجل بائس في هذا الجناح .
أطل علي الطبيب كنت اعرف قدومه من خلال صوت خطواته ، كان لها صوت خافت كأننه يتردد بالدخول ، او يعيد حفظ الكلمات مع كل خطوة .
- لدي مفاجأة لك ! لقد جاء أبناؤك لزيارتك 
ازحت بعيني قليلا للأعلى ، و إذ أرى اجمل لوحة كانو ملتصفين بالزجاج كانت رؤيتهم أثقل من عدمها كشعوري بمقاومة للنهوض ، رغم كل محاولاتي جسدي في البقاء ساكنا ، و ماهي الا لحظات حتى توارت وجوههم في الظلام و سارت اطيافا تزورني كلما أغمضت.
- هل لك أن تتخيل مرارة الشعور بالندم ، الندم على استنزاف كل قوتي 
- سنفتقدك، هكذا انزلقت كلمة المواساة من شفتيه 
- لا أعلم من الوجوه الساهرة علي، غير عينيك اللذان تغمراني شفقة كلما حان موعد الزيارة ، و لكني احفظ الأسرة و الجدران جيدا جيدا و أخشى عليها الوحدة بعدي، هم بالانصراف فجاهدت صدري لأخفف تلك السعلات التي ازدادت حدتها مؤخرا ، و لو أنني استطعت وصفها، لكان الأقرب إليها هو ايقاع النوتات المتسارعة ، أخرجت الكلمات المدسوسة في حلقي و أخبرته أن لي طلب عنده . أوصيك أن تحث أبنائي على أن يقتسماني بعدل ، ليأخذ كل منهم جزءا مني بعدل إنني أوصيك بالبيت ، فلم تكن لي وزيعة يقتسمانها بعدي غيره.
- سيحصل كما تريد ، ارح نفسك ، هل لك طلب آخر ؟ 
- آمل لو أنني أرى وجه البحر ، و شساعة زوجتي ...
عندما تحدثنا عن أحلامنا الاولى 
وحدها لفظة الموت نطت إلى الوجود 
ميسنايوشي – سوو أو 
لقد كانت ليلة باردة جدا ، يومها حين فارقت جسدي او هو فارقني ، لازلت أجهل أي حيز كنت اشغل و اي حزب كنت انتمي إليه ، او كنت روحا لما أسرني هذا السرير ، ولو كنت جسدا لظللت ملتصقا به للأبد ، و لقد اظن أنني مزيج من الاثنين كالشجرة جذوري بعمق الأرض ، و أيادي معلقة بالسماء .
ولا احب التفصيل في الموت او الوداع ، فهو أعظم من أن تختزله الكلمات و اهول من أن تختله الفراغات و الفواصل ، أفضل أن أضع نقطة و آمل أن ينتهي بعدها كل شيء .
النهاية 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بريد المدينة (هايكو)

يشبه الهجرة إلى حد كبير

هل أحدثك عن الخريف ؟